
شبكة مسارب الضي الإخبارية
في زحام الحياة المعاصرة، بات كثير من الناس يندفعون خلف أهدافهم بعجلة لا تحتمل التوقف، وكأن كل تأخر هو فشل، وكل انتظار هو ضياع. هذا الاندفاع، حين لا يرافقه وعي واتزان، يتحول إلى بوابة للقلق، وإلى نفق طويل من الظنون وسوء الفهم الاجتماعي.
من أكثر مظاهر هذا الاضطراب النفسي شيوعًا هو الاستعجال في الرزق، حيث يُختزل الرزق غالبًا في المال أو المنصب أو الشهرة، بينما يغفل كثيرون أن الرزق أشمل من ذلك بكثير. فالمعلومة المؤكدة رزق، والطمأنينة رزق، والصديق المخلص رزق، بل وحتى القدرة على الانتظار رزق عظيم لا يُدركه إلا من أُرهق من الظنون.
الخطير أن هذا الاستعجال يخلق لدى البعض حالة من القلق الوجودي، تدفعهم للانزلاق نحو التفسير المتوتر لكل حدث، فتنهار ثقتهم بالآخرين ويبدأون بالتأويل المفرط. ويظهر ذلك جليًا في بيئات العمل والعلاقات الاجتماعية، إذ يعتقد بعض الأفراد أن كل حديث جانبي يدور عنهم، وأن كل تلميح يُقصد به الإساءة إليهم. وهنا تبدأ دوامة من هوس المراقبة الخفية، حيث يتحول الإنسان إلى باحث دائم عن “أدلة” لا وجود لها.
وفي مراحل متقدمة، قد يجرّ هذا الهوس البعض إلى سلوكيات تجسسية، يتسللون إلى خصوصيات غيرهم، ويفتشون في الرسائل والمكالمات في هواتف الاخرين، وكل ذلك تحت شعارات مضللة مثل “الحرص” أو “المسؤولية”. والحقيقة أن هذا الانتهاك لا يعكس قوة أو ذكاء، بل ضعفًا نفسيًا يحجب الإنسان عن تطوير ذاته ويزجه في فشل إداري واجتماعي مستمر.
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل أثر هذه السلوكيات على أداء المؤسسات. فالمسؤول الذي يعتقد أن زملاءه يتآمرون عليه، يفقد الثقة ويُفقد الآخرين الحافز. كما أن الموظف الذي يفسّر التوجيهات على أنها طعن في قدراته، يضع نفسه في مواجهة مع بيئته، لا مع تحدياته. النجاح الإداري لا يتحقق بالشعور بالخطر، بل ببناء الثقة والانفتاح والمشاركة.
وعلى المستوى الشخصي، أحمد الله كثيرًا أنّه كلما راجت شائعة عن شخص أكن له تقديرًا كبيرًا، ظللت حائرة بين التصديق والتكذيب، حتى يرزقني الله بموقف تتجلى فيه الحقيقة دون سعيٍ أو تجسس. هذه التجارب علمتني أن الانتظار أصدق من الشك، وأن التريث أرحم من القفز إلى الاستنتاجات.
الحياة الحقيقية أن تكون جزءًا من مجتمعك، يراك الناس في فرحهم وتراهم في حزنهم، تتبادل معهم البسمات لا الشكوك. أما الموت الحقيقي فهو أن تعيش خلف ستار كثيف من العزلة والتوجس، بحجة المسؤولية والحرص.
اجعل سعادتك مسؤولية مجتمعية، تفرح لفرح الناس، وتتسامى عن صغائر الأمور، عندها فقط تكون إداريًا وإنسانًا ناجحًا.
يذكّرنا علم النفس السلوكي أن:
“ليس كل شعور بالتهديد حقيقي، فبعضه صدى لصوت داخلي يطلب المصالحة لا المواجهة.”
فالمطلوب ليس أن نُراقب الآخرين، بل أن نُراجع أنفسنا.
وليس أن نستعجل الرزق، بل أن نؤمن بأن كل ما نريده سيأتينا في الوقت الذي نكون فيه مؤهلين له.
الحكمة لا تكمن في سرعة الوصول، بل في سلامة النفس وصفاء النية.
فلنُخفف من ظنوننا، ولنتحرر من هوسنا، فربما كان الرزق المؤجل، أو الحديث الغامض، أو المعلومة الغائبة… خيرًا لم نتبينه بعد.
واختاما :احذر أن تُسيء التقدير، فالاستهانة بفريق العمل ليست فقط ضعفًا في الإدارة، بل بوابة لخسارة رأس المال البشري الأهم. لا تغترّ بصمت بعضهم، فالغافل قد يُفيق يومًا، ويعيد ترتيب أوراقه بعيدًا عنك، والمتغافل ليس ساذجًا، بل يراقب بصبر، ويسجّل المواقف، وقد يمنحك من حيث لا تدري فرصة لتؤكّد له ـ بنفسك ـ ما كان قد لاحظه منذ زمن. الإدارة الحقيقية لا تُقاس بمن يجلس على الطاولة، بل بمن يشعر أنه شريك فيها. وكثير ممن يستصغرهم الاخرون هم شركاء النجاح عن بعد.